ليس لكل مقام مقال

بسم الله الرحمن الرحيم
             
قالت العرب قديما "لكل مقام مقال".
     ويقال أن أول من قال ذلك هو طرفة بن العبد عندما أتى معتذرا لعمرو بن كلثوم في شعر من ضمنه قوله:
تصدق عليَّ هداك المليك :: فإن لكلّ مقامٍ مقالا

     وأصبحت هذه المقولة مثلا دارجا عند العرب منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا للدلالة على اختلاف المقامات والأقوال واللغة التي تليق بكل مقام علوا وارتفاعا وخفضا واتضاعاً.

     مادعاني للحديث عن هذا المثل أو شطر البيت الخالد أنني فعلا أعتبرها حكمة وقولا سديدا يستطيع الأريب المسدد العاقل أن يستخدمه في حياته وتعاملاته اليومية ومخاطبة الناس كل حسب مقامه بالقول الذي يليق به فالبشر درجات ومقامات مختلفة متفاوتة القدر والقيمة حسب مايملكه المرء من مميزات ومواهب ومناصب وأرزاق وأهمها العلم والذكاء مما يستوجب إعطاء كل ذي حق حقه من التقدير والتبجيل وخاصة مقامات العلماء وأولياء الله.

      ولغتنا زاخرة بالكنوز الباهرة والبحار اللغوية الفاخرة التي يغرف منها المرء مايشاء من روائع الكلم والآداب إذا شاء أن يخاطب أصحاب المقامات الرفيعة والهمم العالية المنيفة مهما بلغ علوها وعلمها وفخرها، ولكنها تكف عاجزة حائرة كليلة أمام مقامات ليست كبقية المقامات الأخرى.

     والأديب المبرز والكاتب المجيد ذو التاريخ التليد يجد نفسه وقد استعجمت عليه المعاجم والكلمات والوصف أمام هذه المقامات التي لايرقى إليها حرف وإن تهيأ لكاتبه كل ظرف، وهذه المقامات قد شرفها رب العباد وتقدست بها كل بلاد
وسارت بذكرها الركبان والصافنات الجياد.

ولن يشق عليك أيها القارئ الكريم أن تعرف عمّن أكتب ومن قصدت بما سبق من المقال، ومن غير أهل البيت عليهم صلوات ربي وسلامه يقف لهم التاريخ والحضارات والشعراء والأدباء والعلماء والحكماء إجلالا وتعظيما لما قد عظمهم الله ورسوله والملائكة والأنبياء.

قال تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون).
وقال عز من قائل: ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ).
وقال في موضع آخر: ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).
وقال سبحانه: (قل لاأسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى).

فأوضح الله في كل من الآيات التي ذكرنا ماهي سبيل الجنان ورضى الرحمن والتنكب عن طريق الغواية والشيطان.

      فالأولى قد أبان فيها من هم أولياء الله وهم الإمام علي عليه السلام وأهل البيت من بعده عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، وفي الثانية قد قرن طاعته بطاعة رسول وأهل بيته وهم ولاة الأمر ولا ولي أمر غيرهم فمن أطاعهم فقد أطاع الله ومن عصاهم فقد عصى الله، ومن أشرك معهم غيرهم فقد أشرك بالله لأنه لم يسلم بما أمر الله به، فالله لم يقبل اعتراض الملائكة عندما وضع خليفته ومن يلي أمر الناس والخلق في قوله: ( وإذ قال ربك إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالاتعلمون)، فلم يشرك أحدا في حكمه وقضائه
وكذلك سنته ماضية ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولايجوز لأحد أن يشرك مع مقام أهل البيت أحدا كائنا من كان سواء كان في ولايتهم ومقامهم أو تحت أي معنى أو أي عذر أو مسمى من التبريرات الواهنة الكاذبة من المنافقين والمخادعين، كما يجري الآن ممن يشرك معهم الصحابة والتابعين في الصلوات والتسليم وهذا غيض من فيض، فهذه خاصية لهم خصهم الله بها دون الخلق قاطبة، وأما الثالثة فقدطهرهم الله من الرجس تطهيرا وأمرنا بالتمسك بهم واتباعهم وطاعتهم فهم أطهر وأقدس وأعظم المقامات، وأما الرابعة فأمرنا بمودتهم وحبهم.

إذن ؛
       هم ولاة الأمر وأولياء الله وأمنائه على خلقه بنص الكتاب والسنة وطاعتهم وولايتهم واجبة على كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة وقد طهرهم الله وأمر بمودتهم وحبهم واتباعهم وتقديسهم وبعد كل هذا البيان والبرهان تجد من يجادل وهو يعلم ويعصي الله في أوامره ويأمر بالمنكر وينهى عن المعروف ويقدم المفضول على الفاضل أعاذنا الله من قوم هذا حالهم.

     حقيقة أنني كنت أنوي الكتابة عن سيدتي ومولاتي الزهراء البتول المقدسة صلوات ربي وسلامه عليها، وأردت التعبير عن حبي وعشقي وولائي لمقامها الملكوتي بما أملكه في جعبتي من بضاعة بلاغية كاسدة ومايختزنه القلب والفكر من حب وكنت أحسب أنني أملك القدرة على إحالته إلى أنهار جارية من الأوصاف العذبة والكلمات الندية والأشعار المبهرة والمعاني الزكية فوجدت نفسي عاجزا أمام مقامها الملكوتي وأرجعت البصر في إشراقاتها كرات وكرات فعاد فانقلب إلي بصر الكتابة خاسئا وهو حسير.

       وفي حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أورده القاضي النعمان رضوان الله عليه في كتاب شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار، عن علي بن جرير بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( إذا كان يوم القيامة نصب للنبيين منابر من نور ثم نصب لي أعلاها منبر ثم يقال لي ؛ قم فاخطب ، فأرقى منبري فأخطب خطبة لم يخطب أحد مثلها ثم تنصب منابر من نور للوصيين فيكون علي على أعلاها منبرا ثم يقال له اخطب فيخطب بخطبة لم يخطب مثلها أحد من الوصيين ، ثم تنصب منابر من نور لأولاد الوصيين فيكون الحسن والحسين على أعلاها ثم يقال لهما قوما فاخطبا فيخطبان بما لم يخطب به أحد من أبناء الوصيين ثم يناد منادٍ ياأهل الجمع غضوا أبصاركم وطأطئوا رؤوسكم لتجوز فاطمة بنت محمد فيفعلون ذلك وتجوز فاطمة وبين يديها مائة ألف ملك وعن يمينها مثلهم وعن شمالها مثلهم ومن خلفها مثلهم ومائة ألف ملك يحملونها على أجنحتهم حتى إذا صارت إلى باب الجنة ألقى الله عز وجل في قلبها أن تلتفت.
فيقال لها: ماالتفاتك؟
فتقول : أي رب إني أحب أن تريني قدري في هذا اليوم.
فيقول الله : ارجعي يافاطمة فانظري من أحبك وأحب ذريتك فخذي بيده وأدخليه الجنة.
قال جعفر بن محمد عليه السلام: فإنها لتلتقط شيعتها ومحبيها كما يلتقط الطير الحب الجيد من بين الحب الرديء حتى إذا صارت هي وشيعتها ومحبوها على باب الجنة ألقى الله عز وجلّ في قلوب شيعتها ومحبيها أن يلتفتوا.
فيقال لهم :ماالتفاتكم وقد أمرتم إلى الجنة؟
فيقولون : إلٰهنا نحب أن نرى قدرنا في هذا اليوم.
فيقال لهم : ارجعوا فانظروا من أحبكم في حب فاطمة أو سلم عليكم في حبها أو صافحكم أو رد عنكم غيبة فيه أو سقى جرعة ماء فخذوا بيده فأدخلوه الجنة.
قال جعفر بن محمد صلوات الله عليه: فوالله مايبقى يومئذ في النار إلا كافر أو منافق في ولايتنا فعندها يقولون: ((فما لنا من شافعين ولاصديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين))، ثم قال جعفر بن محمد صلوات الله عليه: كذبوا (( ولو رُدوا لعادوا لما نُهوا عنه وإنهم لكاذبون)) كما قال تعالى، ثم يناد منادٍ لمن الكرم اليوم فيقال : لله الواحد القهار ولمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين )).
انتهى الحديث.

يالله
ماهذا المقام وهذا الكرم وهذه المعجزات الربانية والمقامات المقدسة القدسية؛
أي كرم هذا وأي قدسية تلك؛
صلوات ربي وسلامه على البتول وأبيها وبعلها وبنيها وسلامه وتبريكاته صلاة لاتزول ولاتحول أبدا سرمدا؛
ولعمري قد أجاد الشاعر في مدحه لبضعة النبي صلوات اله وسلامه عليهم أجمعين حين قال؛
مشكــا ة نــور اللـــه جـل جـلالـه :: زيــتونـة عــم الـورى بــركـاتهـا
هي قطـب دائــرة الوجــود ونقطة :: لمــا تـنزلــت أكـثرت كـثـراتــهـا
هي أحمد الثاني وأحمد عـــصرها :: هي عنصر التوحيد في عرصاتها

       ونعيد فنقول لو سجرت البحار وتفجرت الأرض مدادا وبلاغة وفصاحة لما استطاع أن يصل لوصف أخمص القدم لسيدة نساءالعالمين ومقامها الذي أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كنت أحسب أنني فارس الميدان الذي يشق عباب المعاجم ويصول في فيافي البلاغة ويجول بسنان القلم في ميادين الفصاحة ممتطيا صهوة البيان وأرمي بقوس البرهان فلا يصمد لي أحد وإن كانت كتائب من الكتاب أوجيش عرمرم من الكلمات والمعاني إلا وأطحت بهم بسنان القلم وبصارم الفكر والسمر العوالي من الصياغة اللغوية الفائقة الراسخة، فأثخن في الكتابة وأمُنّ على الأسارى من كلمات ومعاني أطلقها في ميدان المقالات والأبحاث، حتى وقفت اليوم أمام مقام الزهراء عليها صلوات ربي وسلامه وتبريكاته، فتكسرت الرماح الكتابية وعُقرت فرسي البلاغية وتحطمت سيوفي التعبيرية وتفرقت صوارمي البيانية، أمام هذه المقامات الملكوتية المقدسة بالأوامر الإلهية وأصبحت هائما حائرا لاأدري ماأقول أمام الزهراء البتول الحوراء الإنسية، وحسبي أن أستشهد بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أوتي جوامع الكلم صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين وحسبنا قول إمام الأنبياء وسيد المرسلين الذي لاينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فلا قول بعد قول الله جل جلاله ورسوله وأهل البيت عليهم صلوات ربي وسلامه أجمعين.

       وأدعو كل موالٍ أن يردد هذا الدعاء المبارك لسيدنا العالم الهمام وداعي دعوة الحق سيدنا المؤيد في الدين الشيرازي رضوان الله عليه وقدس روحه ؛
(الحمد لله عالم الظواهر والسرائر وواهب الأبصار والبصائر المتعالي عن ادراك الخواطر والضمائر وصلى الله على المستخلص من أشرف القبائل والعشائر المخصوص بجوامع الفضائل والمفاخر محمدا رسول الملك القادر و على وصيه بحر العلوم الزاخر و دامغ الباطل بحدي لسانه وحسامه الباتر و على الأئمة من ذريته النجوم الزواهر و مباركي نسله من السجاد و الصادق والباقر و ماأعقبوا من كل إمام طيب وطاهر وسلم تسليما و حسبنا الله ونعم الوكيل)).

وفي الختم أقول لطرفة:
نعم لكل مقام مقال حتى تصل لمقامات سيدنا محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين صلوات الله عليهم.

عندها سنقول لك لا ياطرفة ليس لكل مقام مقال.

وصلى الله على المصطفى المختار
وعلى وصيه الحيدرة الكرار
وعلى بضعته الزهراء مشكاة الأنوار
وعلى الحسن والحسين الأسباط الأطهار
وعلى ذريتهم الطيبين الطاهرين الأبرار
وبارك وسلم مادار الفلك الدوار وتعاقب الليل والنهار
وسلم تسليما كثيرا

خادم العترة المطهرة
حمدان آل مخلص

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سيدنا آدم عليه السلام ؛ هل تزوج الأولاد بالبنات؟

الإمام الحاكم بأمر الله والحقيقة المغيبة

رد الشبهات بالبراهين والبينات