إسحاق بين العبقرية وسقوط التفاحة
لم يكن سقوط التفاحة هو الذي جعل نيوتن عبقريا فجأة
!ولم تسقط على رأسه
!
حقيقةً؛؛
أن بعض الاعتقادات السائدة التي ترسخ في ذهن الإنسان منذ صغره
دائما ما تأخذ صفة المسلمات اليقينية التي يتعامل معها بوثوقية منقطعة النظير،
وتصبح فيما بعد عائقا للعملية البحثية والتثقيفية وحجرعثرة يعيق طريق الفرد نحو
تنمية قدراته الذهنية وتوسيع مداركه العقلية من أجل بناء شخصية معرفية تسهم في
الدفع بالنفس والمجتمع والوطن نحو الأفضل
وليس هناك من دليل أكثر من شخصية
العالم الكبير إسحاق نيوتن الذي مازال البعض يعتبر أن التفاحة التي سقطت على الأرض
أمامه بالصدفة قد سقط معها قانون الجذب العام الذي ظل مسيطرا على مسار الفكر
العلمي لثلاثة قرون متصلة فأول معلومة يجب أن ننتبه لها هي أن رأس نيوتن لم يسقط عليه
تفاحة ولا برتقالة ولا حتى ورقة توت، ثانيا؛ نيوتن ظل لأعوام طويلة يهندس النظرية
والقانون ولم يقتصر إنتاجه على هذا فقط فقد سبقها إنجازات واكتشافات جعلته في
مصاف إن لم يكن متفوقا على علماء زمنه المعاصرين ومن أتى بعده لسنوات طويلة.
وفي إطلالة سريعة على مولده ، فقد ولد إسحاق نيوتن في عام ١٦٤٢م في
انجلترا في لونكشير لأب مزارع في ظل بيئة صعبة وظروف ساهم فيها الحظ وأمه بعد ذلك
أن يبتعد كليا عن النساء (لا ألومه طبعا (، حيث وُلد بعد وفاة والده بعدة أشهر
وكان ضئيلا وهزيلا جدا لدرجة أن المرأتان اللتان ذهبتا لتجلبا الدواء قررتا الجلوس
و الإستراحة في منتصف الطريق ظنا منهما أنه لن يعيش، ولكن شاءت الأقدار أن يكتب
الله عمرا لهذا الطفل الذي أصبح حديث العالم فيما بعد.
وبعد أن بلغ الثالثة قررت أمه أن تتزوج من أحد الرجال
الميسورين وانتقلت معه وتركت ابنها في عهدة أمها ( جدته ) لكي تعتني به وتهنأ هي
بالزواج من جديد، ولم يكن الطفل إسحاق يحب هذا الوافد الجديد على حياته وهو زوج
أمه،عموما وحتى لانطيل في سرد تفاصيل حياته ونشأته
فلن نتوغل أكثر من ذلك، لأن الهدف
من هذه المقالة هو إزالة بعض اللبس والغبش عن أعين الفكر ومقلة العقل. حسنا ، هل تعلم أن السير إسحاق نيوتن كان
عالما فذا في
الرياضيات والفيزياء وعلم الفلك وعلم اللاهوت والأديان؟
وقد كان رئيس الجمعية الملكية (
وهي جمعية تختص بعلوم الرياضيات والفيزياء) وكان عضوا في البرلمان وقد كان
أستاذ لوكاسي ثاني في جامعة كيمبريدج )أي أنه كان قد حصل على درجة الأستاذية وكلمة لوكاسي نسبة إلى عضو
البرلمان هنري لوكاس مبتكر اللقب وهو درجة الأستاذية (بروفوسور)).
كل ذلك قبل التفاحة التي يعتقد الكثيرون أنها سقطت على رأسه
فأتت بالعجائب والنظريات وقوانين الحركة وقانون الجذب العام ، وكأن
نيوتن كان خالي الوفاض قبلها ولم يكن عالما موسوعيا فذا يحلق في سماء العبقرية
الخلاقة
فما هي قصة التفاحة؟ يخبرنا وليام ستوكلي عن قصة التفاحة في
كتابه عن سيرة نيوتن الذي كان معاصرا له
بأنهما ذهبا لشرب الشاي في إحدى
الحدائق التي تتواجد بها أشجار التفاح، فأخبره نيوتن عن أنه في إحدى الأيام في مثل
هذه الحالة كان يتفكر في طريقة وسبب سقوط التفاحة بشكل عمودي إلى مركز الأرض، وهذا
نص كلامه الذي نقله ستوكلي عنه "لماذا تسقط التفاحة دائمًا عموديًا على الأرض؟ ثم
قال لنفسه لماذا لا تسقط جانبا أو تصعد لأعلى
لا بد أنها تتجه إلى مركز الأرض، إذا
بالتأكيد أن الأرض جذبتها بالتالي لا بد من وجود قوى جاذبة في المسألة. ومجموع القوى
الجاذبة في مسألة الأرض يجب أن تكون في اتجاه مركز الأرض، وليس في أي جانب.
بالتالي تسقط التفاحة عموديًا، أو نحو المركز. وإذا كانت الأشياء يجذب بعضها بعضا
يجب أن يتناسب ذلك مع حجمها. فتكون التفاح تجذب الأرض كما تجذب الأرض التفاحة
."
ومجمل قول نيوتن هنا أن جاذبية الأرض يجب أن تتناسب مع حجمها
وبالتالي ستتعدى محيطها أي أنه كان يرى أن جاذبية الأرض ليست محصورة في مسافة معينة لا
تتعداها بل هي تصل حتى حدود القمر وتجعله يدور في مداره بفعل هذه الجاذبية وأخذ بعدها في صياغة قوانينه ونظرياته
التي أخذت منه وقتا طويلا وجهدا مضنيا.
فدعك من التفاحة التي سقطت على رأسه وسقطت معها بهدية قانون
الجذب العام ، ناهيك عن كتاب الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية وما تضمنه من
قوانين ونظريات ساهمت في تأسيس أهم مبادئ الميكانيكا الكلاسيكية و ما تضمنه من
قوانين الحركة لنيوتن المعروفة بالقانون الأول والثاني والثالث التي كان الأثر العظيم في دفع
عجل الثورة الصناعية كما ساهم في علم البصريات مساهمة عظيمة، كما ابتكر أول مقراب
عاكس أو ما يسمى بتلسكوب المرآة ( العاكس واستخدم فيه مرآة مقعرة وهي المرآة
الرئيسية ومرآة مسطحة جانبية) حيث استطاع من خلاله رؤية الكواكب البعيدة والأجرام
الغائرة في أعماق الكون، وكذلك وضع نظريته الشهيرة عن الطيف والألوان بعد تشتيته
للضوء الأبيض عبر تمريره من خلال موشور حوله إلى الطيف المرئي، ونظرية ذات
الحدين ( صيغة ثنائي نيوتن) وهي نظرية تصلح لأي أس، وقد درس أيضا سرعة الصوت، وكان
له الفضل في صياغة نظرية وحساب التفاضل والتكامل (بغض النظر عن الخلاف حول إسهامات
لا يبتنز فيه ) ويختص بالتغيرات التي تأتي على الدالة والمتسلسلات اللانهائية
وكذلك تستخدم تطبيقاته في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والهندسة بل وأيضا في الطب
والحاسوب، ولو أردنا ذكر كل ابتكارات وإنجازات هذا العالم الكبير لاحتجنا إلى كتب
وموسوعات.
ولكن ماذا لو أخبرتكم أن هناك أيضا مفاجأة أخرى تختص بإحدى
جوانب حياته المشرقة بالإنجازات الحافلة فمع كل هذه العبقرية العلمية كان الرجل
كاتبا ومفكرا موسوعيا في علم اللاهوت والأديان
ولكن ليست هذه المفاجأة وإنما
الأمر المدهش أن نيوتن على الرغم من أنه كان رجلا نصرانيا متدنيا إلا أنه لم يكن
يعتقد و لا يؤمن بعقيدة الثالوث الشركية ، وكان يرى أن اعتبار المسيح كالإلٰه
كفر وخطيئة عظيمة كعبادة الأصنام.
والثالوث هي العقيدة التي تقول بأن الأب وهو الخالق والإبن وهو
المسيح والروح القدس هم ثلاثة أقانيم أو أرباب في جوهر واحد ولا يُفصل بينهم في
العبادة والعياذ بالله وهي العقيدة التي تؤمن بها الكنيسة الأنجليكانية
والكاثوليكية، أي أن الرجل كان موحدا وظل يخفي كتاباته وآراءه حول هذا الأمر حتى
لا يتم تكفير وزندقته ، وفوق هذا وذاك فقد كان عفيفا ولم يقرب النساء حيث توفي
بكرا وهو ما أكده المقربون وخاصة الطبيبان اللذان أشرفا عليه وذلك بشهادة الفيلسوف
الفرنسي الكبير ڤولتير.
كانت حياة عظيمة مليئة بالإنجاز و الابتكار والتقدم رغم ظروف
الحياة الصعبة التي استطاع التغلب عليها بفضل همته وشموخه، ولا ننسى طبعا عبقريته
التي بدت جلية واضحة منذ صغره مما جعل إسحاق بارو العالم الكبير واللوكاسي الأول
يصفه في رسالة لجون كولينز بعد نشره لورقة عن حساب التفاضل والتكامل قائلاً:
"من أعمال السيد نيوتن، وهو زميل في كليتنا وهو صغير جدا لكنه عبقري فوق
العادة وماهر في مثل هذه الأمور."
ومع كل هذا كان يشدد على أن الله هو الخالق العظيم وهو المدبر
لهذا الكون وكانت له مساجلات عديدة مع الماديين و الملاحدة، وكان حريصا على تدينه
وضرورة الإيمان بوجود الله الذي أبدع هذا الكون العظيم لدرجة وقد حذر بقوة من
استخدام قانون الجاذبية و قوانين الحركة التي صاغها في محاولة تفسير ماهية خالق
الكون وإنما هي مختصة بالكون وعالم الطبيعة لأن الله هو الحاكم على كل شيء كما قال
هنا "تفسر
الجاذبية حركة الكواكب، ولكنها لا تفسر من الذي يجعلها تتحرك. فالله يحكم كل شيء
ويعرف كل شيء وما يمكن أن يكون".
وكما ذكرنا في أول المقالة التفاحة لم تسقط على رأسه ولم تصنع
عبقريته، وإنما كانت سببا في إلهام عبقريٍّ استطاع توظيف هذا المشهد وصياغته في
نظرية أاعتبرت إحدى أعظم النظريات التي ساهمت في تفسير الظواهر الطبيعية والكونية
في تاريخ البشرية.
حمدان آل مخلص