الكنوز الفاطمية
أكتب هذه المقالة على عجالة لضيق الوقت وهي جزء من
مقالة بحثية مطولة تتناول التراث الإسلامي الذي تراكم عبر العصور والأزمان المتعاقبة حيث ستتضمن جانبا لبعض أهم القضايا
الفكرية التي أشغلت الفقهاء وعلماء المسلمين
وخلقت الانقسامات في جسد الأمة
التي كان السبب الأول لها ما حدث في السقيفة وتخلي المسلمين والصحابة عن وصية
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في إتباع أمير المؤمنين سيدنا عليه السلام إلا من
رحم الله من الصحابة المنتجبين الأخيار، فحُرفت الشريعة منذ اليوم الأول لتولي
أصحاب السقيفة وأخذ التخبط والضلال يأخذ مساحة كبيرة من فكر المسلمين بسبب
ابتعادهم عن حبل الله الممدود وحوضه المورود وسفينة النجاة وقرناء القرآن الذين
أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح بأنهم والقرآن لن
يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وظهرت البدع والفتاوى التي ما أنزل الله بها من سلطان
ولم يسلم حتى الأذان من التحريف والتبديل، ثم استولى بنو أمية على مقاليد الحكم
والأمور فعاثوا في بلاد الإسلام ودين الرحمة طغيانا وإجراما وفسادا وتقتيلا
وتشريدا حتى وصلت بهم الجرأة أن أحرقوا واعتدوا على الكعبة المشرفة ورموها
بالمنجنيق وهدموا جدارها في جريمة لم يستطع أعتى أعداء الإسلام أن يقدم عليها، وأخذوا
يتتبعون أهل البيت تسميما وتقتيلا وتقطيعا، وأتى العباسيون بالشر المقيم والظلام
المديم على الأمة وكانوا أكثر سوءا و بئسا على العترة الطاهرة المقدسة التي قال
عنهم سيد البشر: "أنا
سلم لمن سالمتم وحرب لمن حاربتم".
وفي سنة ٢٩٦ للهجرة أشرقت الشمس من مغربها بإشراقة نور الإمامة
الفاطمية لسيدنا عبدالله المهدي بعد أن مكن الله له في الأرض وهو الشريد
الطريد الوحيد فنصر الله عبده و أيده بالنصر والتمكين، فأشرق معه نور العدل
والتسامح والعلوم والتقدم و الإزدهار في دولته ومن أتى بعده من الفاطميين الطاهرين
الذين نشروا العلم والنور وأعادوا إحياء سنة جدهم الرسول صلى عليه وآله وسلم ،
واستطاعوا نفض الغبار المتراكم على الشريعة الغراء جراء من ضلل المسلمين بمذاهب
وآراء وقياسات وأهواء جعلت العامة يتخبطون في طخية عمياء وحيرة وضياع مع مذاهب
تحلل لهم وتحرم من غير هدى من كتاب ولاسنة لأنهم أهملوا وصية الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم ولم يركبوا سفينة النجاة التي من ركبها نجا من طوفان الضلالة ومن تخلف
عنها هلك في قعر الجهل الذي ليس له قرار.
ولعلنا هنا سنتناول قضية تختص بالسنة النبوية وأحاديث الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم التي احتار القوم في كثير منها وفي ظاهرها، فأخذوا
يترنحون يمنة من العقل والرشاد ويسره ولجأوا للتأويل الذي كانوا ينكرونه
علينا، ولكنه تأويل فاسد لأنه خرج من عقول فارغة ترزح تحت شيطان الهوى والتخبط
والزيغ وأئمة الضلال ودعاة جهنم، وتركوا باب مدينة العلم ووصي الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم الذي قال: "عنه ستقاتل على تنزيله كما قاتلت على تأويله"،
قال الله في محكم تنزيله: "هو
الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين
في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله
إلا الله والراسخون في العلم".
وقد أوضح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للأمة بما لا يدع
مجالا للشك من هم الراسخون في العلم في حديث الثقلين عندما جعلهم قرناء القرآن
الذين لن يفترقوا إلى أن يردوا عليه الحوض وهم العترة الطاهرة الزكية يتقدمهم
الإمام علي عليه السلام الذي قال عنه الله في كتابه الكريم "وإنه لدينا في أم
الكتاب لعلي حكيم "
ولكي ندلل على ما يملكه الفاطميون من كنوز محمدية ربانية
نورانية ورثوها كابرا عن كابر وإماما عن إمام حتى يرث الله الأرض ومن عليها سنتداول
حديثا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أوقع القوم في حيرة جعلتهم يأتون بتفاسير
وأقوال لا يقر بها من له أدنى مسكة من عقل أو علم أو حتى منطق، حيث ورد في المسند؛
عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن نوحاً قال لإبنه عند
موته: آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع و الأرضين السبع لو وضعت في كفة
ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع و
الأرضين السبع كن في حلقة مبهمة ةفصمتهن لا إله إلا الله" ، وورد فيه أيضاً عن عبد الله بن عمرو
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أن موسى عليه السلام قال: يا رب! علمني
شيئاً أذكرك وأدعوك به قال: يا موسى، قل: لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك
يقولون هذا. قال: قل: لا إله إلا الله. قال: لا إله إلا أنت يا رب إنما أريد شيئاً
تخصني به. قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري و الأرضين السبع في
كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله". وكذلك (ترجح بصحائف
الذنوب) كما في حديث السجلات والبطاقة وقد خرجه أحمد والترمذي والنسائي والترمذي.
والذي ينظر لظاهر الحديث سيتساءل كيف سترجح كفة كلمة الإخلاص،
أمام كفة وضعت فيها السماوات والأرض بما فيها من أكوان ومجرات وأفلاك ونجوم وما هو هذا
الميزان الذي من الممكن أن يجمع بين هذه المخلوقات بحيث يستطيع الإنسان أن ينظر
إلى السموات والأرضين مجتمعة في كفة ولا إلٰه إلا الله في كفه، وكيف ترجح كلمة لو
كتبناها على كفة ميزان بسيط لم ترجح حتى بريشة؟
هذا ما جعل القوم يخترعون أقوالا
وآراء سقيمة من خيالهم مما جعلهم يقعون في حيرة مدلهمة وتخرصات وظنون، كقولهم أنها
ترجح بالكفة لمن قالها وقد أتى بمعناها، أما من خف بها لسانه ولم يوثق بها قلبه
فإنه لا تنفعه ولا تكون على هذا الحال. وتفاسيرهم وأقوالهم في الحديث لا تخرج
عن هذا المعنى والأقوال الغريبة التي تخالف ظاهر اللفظ ويحملون الحديث ما لا
يحتمل، فهم قد ربطوا ثقل كلمة الإخلاص في الميزان بحسب نية من يتلفظ بها من
المسلمين فإذا أخلص النية رجحت كفتها وإذا خف بها لسانه ولم يصدق في نيته فلن
ترجح ولن ينتفع بها، وهذا تفسير غريب وساذج ولا يتطابق مع قول رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، فالحديث واضح أن ثقل لا إلٰه إلا الله لا يرتبط بإلإنسان ونيته أو
أي كائن كان فثقل الكلمة هو ذاتي وأبدي سرمدي، وترجح بالسماوات والأرض لعظمتها
ولم يربطها بأحد، فكيف سولت للقوم أنفسهم أن يجعلوها تضعف وتقوى حسب نية الإنسان؟ هذا هو الضلال البعيد والتخبط الذي أضاع
الناس عن مقاصد الشريعة وظنون لا تغني من الحق شيئا، ينطبق عليهم قوله تعالى: "مالهم به من علم إن يتبعون إلا
الظن وأن الظن لا يغني من الحق شيئا".
وكان الأحرى بهم أن يصلحوا عقائدهم وانحرافاتهم بدل التطاول
على عقائد المؤمنين والتهجم عليهم وتكفيرهم دون برهان أو دليل، قال تعالى:
"ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا
فضل الله ورحمته عليكم لاتبعتم الشيطان إلا قليلا".
والآن...
ماذا قال الأئمة الفاطميون الراسخون في العلم عليهم السلام بما
ورثوه من علم من آبائهم وجدهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودعاتهم الأفذاذ والعلماء الربانيون
وتفسيرهم لهذا الحديث العظيم في لفظه ومعناه؟
سنورد الآن الكنوز التي أنارت ببريقها دروب المؤمنين والباحثين
عن العلم والحق والحقائق العلوية المحمدية الفاطمية القدسية، فقالوا بعد أن
استنكروا التفاسير المغلوطة: "أن كلمة الإخلاص هي كلمة جامعة لجميع خلقة الله سبحانه
من عالم العقل والنفس وعالم الأفلاك وعالم الطبيعة على صغر حجمها و نزارة جرمها
كما تكون النطفة جامعة لصور الإنسان وجسمه وحجمه في كينونتها قبل أن تتشكل".
ولاحظ هنا أيها القارئ الكريم أنهم يتكلمون عن عظمة الكلمة
بذاتها وليس كما فعل المخالفون بأن ربطوا ثقلها وعظمتها بالإنسان الضعيف، وقد أوضح
الفاطميون ودعاتهم هذه الكيفية في تفسير عظيم يجعلك تتيقن أنه لم يصدر من إنسان
عادي أو من أفكار البشر، بل هو النور الذي لا يخرج إلا من مشكاة النبوة، والسر
يكمن في كلمة الإخلاص نفسها وكيفية وماهية الميزان الإلٰهي الذي يقصده سيد البشر
صلى الله عليه وآله وسلم، والسر الأعظم يكمن في لا إلٰه إلا الله.
إذا كيف؟ وماهو هذا السر؟
السر هو في تركيب الكلمة وحروفها كما شرح الأئمة عليهم السلام
ودعاتهم الفخام، وهي كالآتي:
فكلمة الإخلاص تتكون بداية من نفي وإثبات؛
لاإله هو نفي الألوهية عن جميع
الخلائق؛
إلا الله هو إثباتها لله وحده
سبحانه جل شأنه؛
وهي فصلان،
وهي تتكون من ثلاثة أحرف رئيسية مكررة هي؛
الألف واللام والهاء ،
وتتكون من أربع كلمات
لا
إلٰه
إلا
الله ؛
وفيها سبعة فواصل أو كما يسميها البعض فراغات،
لا/إ/لٰه /إ/لا/ا/لله ؛
وإذا حسبت عدد حروفها كان الناتج ١٢ حرف.
وحتى يستوعب القراء النتيجة
نقول:
النفي والإثبات ٢،
الحروف الرئيسية ٣ ،
الكلمات ٤،
الفواصل ٧،
مجمل الحروف المكررة ١٢،
إذا جمعت هذه الأرقام؛
2+٣+٤+٧+١٢
يساوي ٢٨؛
بعد أن بسطت القاعدة التي سننطلق منها، سنبين الآن كيف سترجح
بالسموات والأرض ومن فيها حقا بالميزان الإلٰهي وعلوم الفاطميين النبوية، فإذا
أردتم السماء فالكواكب الثابتة (نفي( وغير الثابتة (إثبات)
والأحرف الثلاثة تعادل الشمس
والقمر والنجوم.
الكلمات الأربع هي الحرارة واليبوسة والبرودة والرطوبة،
المقاطع السبعة هي المشتري وزحل والمريخ والزهرة وعطارد والشمس والقمر، والحروف
الإثنى عشر هي البروج الإثنى عشرة، ومجموعها ٢٨ حرف على حروف المعجم، سبحان الله
ما أعظمها من كلمة.
ولنأخذ مثلا آخر؛ في الأيام، النفي هو الليل، والإثبات هو
النهار، الحروف الثلاثة الرئيسية هي الماضي والحاضر والمستقبل الكلمات
الأربع تقابل الفصول الأربعة شتاء و صيف و ربيع و خريف. الفواصل أو المقاطع السبعة تقابل
الأيام السبعة من الأحد
إلى السبت والحروف الإثنى عشر تقابل الشهور الإثني عشر؛ فسبحان من أتقن صنعه.
وكذلك الإنسان لو قسنا عليه
النفي هو الجسد والإثبات
الروح والحروف الثلاثة هي مرحلة النماء ثم الحس ثم النطق الكلمات
الأربع هي الأخلاط الأربعة المكونة للجسد وهي الصفراء والسوداء والبلغم والدم، والفواصل
السبعة هي الأعضاء الرئيسية في البدن وهي
اليدان والرجلان والظهر والبطن
والرأس والحروف الإثنى عشر هي المفاصل في جسد الإنسان مفصلا
القدم والركبتان والفخذان من مفصل الحوض
والزندان
والمرفقان والعضدان.
هل تريدون المزيد؟
حسنا ؛
سنضرب أعظم الأمثلة ونستدل بالقرآن
النفي والإثبات هو المتشابه
والمحكم الحروف الثلاثة مثال على قوله تعالى:
"يا أيها الذين آمنوا أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"،
الكلمات الأربع هي أنهار الجنة
الأربعة وهي أنهار الماء واللبن والخمر والعسل المصفى، قال تعالى
:"مثل الجنة التي وعد المتقون
فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة
للشاربين وأنهار من عسل مصفى لهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم"،
المقاطع أو الفواصل السبعة هي سبع سموات
و سبع شداد و سبع
بقرات و سبع عجاف؛ الحروف الإثنى عشرآية "وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا"
، وكذلك "فانفجرت منه اثنتا
عشرة عينا. "
ولو أردنا استعراض ما أورده الفاطميون من كنوز وأمثلة حول هذا
الميزان الإلٰهي وهذه الكلمة العظيمة الجليلة لاحتجنا للمجلدات ولن تكفينا مقالة
عابرة، وحقيقة أن المؤمن المخلص الذي تتطلع نفسه لإشراقات العلوم العرفانية سيتنفس
الصعداء وسيشعر بأنه قد لامس الجوزاء في عليائها عندما يرى هذه الكنوز النبوية
الفاطمية تميط اللثام عن هذه الرموز العظيمة التي ضمنها الأنبياء المرسلون في
أقوالهم وحكمهم النورانية الخالدة ومن ينتمي للفاطميين سيشعر بعظيم الامتنان
والشكر لله بحيث أنعم عليه بأن جعله من أتباع هذه الشجرة السماوية المباركة بحيث
يستظلون بظلالها النورانية وعلومها الربانية وحكمها القدسية الشعشعانية عندما يقرأ
أي شخص هذه العلوم وقد فتح قلبه وأشرقت روحه بنور الإيمان
فإنه سيحلق في سماء السعادة
والسمو عاليا بين أفلاك المعرفة وأبراج الحكمة وكيف أنعم الله عليه بهذه النعمة وهي نعمة
العقل التي يتلذذ بالحكمة والعلم عن طريقه، وقبل هذا وذاك ، نعمة الولاية وهي أعظم النعم وأكملها
وأشرفها، فيعرف من خلال علوم العترة الطاهرة معنى كلمة الإخلاص والتوحيد ومفاتيحها
السماوية وكيف ترجح بالسماوات والأرض حقيقة كما قال سيد البشر صلى الله عليه وآله
وسلم في كفة الميزان الإلٰهي، يا له من علم، ويا لها من حكمة؛ وحق لنا أن
نفرح ونفخر ونرتقي بأرواحنا في عالم الملكوت الرباني ونشكر الله ونذكره كثيرا
ونحمده آناء الليل وأطراف النهار على نعمة الولاية ودعوة النور و الحق و الخير وسبحان من
قال جل في علاه: "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا".
اللهم لك الحمد حمدا كثيرا على ما أنعمت به علينا من إتباع
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطيبين الطاهرين، اللهم كما وفقتنا
لولايتهم فوفقنا على الثبات في محبتهم وطاعتهم والإخلاص في ولايتهم إنك على كل
شيء قدير اللهم صلِّ على سيدنا المصطفى المختار وعلى أهل الطيبين الأخيار
الأبرار ما تعاقب الليل والنهار وما دارت الأكوار والأدوار وبارك وسلم
أبدا سرمدا.
حمدان آل مخلص