العباقرة وعظمة العقل

 

يتبادر إلى الأذهان دائما التساؤل الآتي:
ما هو سبب تفوق العباقرة على غيرهم من البشر والناس العاديين ؟ وهل ذلك بسبب الظروف والبيئة المحيطة بهؤلاء العباقرة؟ هل تختلف تراكيب الأدمغة عندهم عن البقية من البشر من أقرانهم؟
كيف استطاع ابن سينا وابن الهيثم وجاليليو ونيوتن ورذر فورد وماكس بلانك وآينشتاين وهنري موزلي وغيرهم من الأفذاذ التفوق بهذا الشكل واستطاعوا أن يبزوا الجميع ويصنعوا الثورات الفكرية والعلمية ويسهموا في تقدم العالم والقفز به إلى فضاء رحب فسيح من التطور والتقدم الذي اختصر قرونا على البشرية ؟
وحقيقة أن الإجابة على هذه الأسئلة دفعت العلماء والمفكرين إلى عمل الدراسات المكثفة حول الإنسان وقدرات الدماغ والمخ والدراسات التشريحية لفهم سر التفوق عند هؤلاء وما إذا كان هناك سبب عضوي بيولوجي ومسببات جينية وراثية أم أسباب بيئية واجتماعية أم هي مجموعة من العوامل المتشابكة والظروف والأسباب المتداخلة المعقدة.
وقبل أن نبحث عن الإجابات على هذه الأسئلة، دعونا نتعرف على تكوين الدماغ والمخ وهيكلية هذا العقل العظيم عند الجنس البشري بشكل مختصر، فالمخ عبارة عن مجاميع عصبية معقدة جدا ومتداخلة تقوم بوظائف جبارة ودقيقة للغاية تنظم جميع عمليات الجسد والتحكم في ٥٠٠ عضلة في الجسم بسلاسة ودقة عجيبة أفضل من أكبر وأسرع وأدق الحواسيب في العالم، حيث يبلغ وزن المخ للشخص العادي في المتوسط ١,٤ جرام ( كيلو وثلث تقريبا)، ويتكون من ١٠٠ مليار خلية عصبية وشبكة ممرات عصبية متداخلة ومعقدة للغاية وأوعية دموية بطول ١٠٠ ألف ميل )تخيلوا فقط كل هذا في وسط هذه الجمجمة الصغيرة(، ويستهلك المخ العادي ٢٠٪ من الأكسجين والجلوكوز ويستهلك العقل النشيط ٣٥٪ ويتخلل عقل الإنسان كمية دم تساوي وزنه بالكامل في كل دقيقة. ويتم نقل المعلومات عبر الخلايا العصبية بسرعات تتراوح بين ٥,متر/ثانية إلى ١٢٠) أي بحدود٢٧٠ ميل في الساعة (، فالعقل يعتبر كالملك الذي يحكم مملكة عظيمة وينظم ويتحكم في انفعالات عمليات الجسد المختلفة ويصدر الأوامر والتعليمات لمليارات الخلايا التي تتفاعل داخل هذا الدماغ والجسد والحركات الإرادية واللاإرادية في دقة متناهية أبهرت أكبر الباحثين والعلماء، ومن ضمن النعم العظيمة أن الجسد البشري يتداول في عقله ما يعادل ٧٠٠٠٠ ألف فكرة في اليوم الواحد لو لم تكن منظمة بسلاسة بقدرة الله لانفجر الإنسان وانهار بفعل هذه الكمية الرهيبة من الأفكار التي ترد عليه يوميا، ناهيك عن أن العين ترمش وتومض ٢٠٠٠٠الف مرة في اليوم يقوم خلالها العقل بإبقاء العالم نيرا مضيئا حتى لا يعيش الإنسان في تخبط بين العتمة والنور بسبب السرعة الشديدة وكمية ما ترمشه العين يوميا.
وحتى الحركات والتصرفات اللاإرادية مثل الأكل والشرب والمشي فهي بفعل تنظيم المخ بحيث لا تحتاج للتفكير الإرادي وانتظار تكوين الأوامر وهذه بحد ذاتها نعمة عظيمة لا يشعر بها الإنسان، وحتى الإبتعاد بشكل لاإرادي عن الأجسام المحرقة والحارة أو عند اقتراب حيوان مفترس أو عدو تكون ردة الفعل سريعة جدا بشكل لاإرادي بسبب إرسال الإشارات بشكل سريع جدا جدا إلى النخاع الشوكي الذي ينظم الحركة بعمليات تنسيقية معقدة ومذهلة تسمح للإنسان بتفادي الأخطار والأحداث المفاجئة.
فسبحانه جل شأنه على ما أنعم، حيث قال تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم".
سبحانه!
والآن بعد أن تعرفنا بشكل سريع على هذه الهبة الربانية العظيمة المشتركة عند الجنس البشري نعود لمحور الحديث حول العباقرة وسر تميزهم وتفوقهم وعبقريتهم وهل ذلك يعني أنهم يملكون شيئا لا يملكه غيرهم، هل يعقل أن هناك هناك أسبابا ميتافيزيقية وراء هذا التميز؟) الميتافيزيقيا مصطلح يقصد به ما وراء الطبيعة). ولكي نبسطها أكثر، هل سبب تفوقهم يتعلق بقدرات نفسانية خارقة تتعدى حدود طاقة الجسد والدماغ؟ هل هو إلهام وأفكار تنزل على هؤلاء؟ أم هي الوسيلة التي يفكرون بها واكتشافهم لكيفية الطريقة المثلى لاستغلال قدراتهم لأقصى درجة ممكنة؟
وقبل أن نضرب الأمثلة على العباقرة وطريقة تفكيرهم، دعونا نتساءل عن أحد أعظم المسائل الميتافيزيقية التي خاض فيها الفلاسفة والمفكرين العظماء عبر التاريخ وهي النفس وماهيتها. هذه المسألة ظلت تشغل الفكر البشري منذ بداية الخلق وحتى عصرنا هذا عن ماهية النفس وعلاقتها بالجسد وهل هي مخلدة أم لا؟ وهل يجري عليها الزمان كقرينها الجسدي أم أنها خارج حدود الزمان؟  والأهم هو القدرات الجبارة والإمكانيات الكامنة في هذه النفس المقيدة بقيود الجسد الزمكانية ( الزمان والمكان)، وحتى أقرب المسألة للقراء الكرام، سأضرب لكم هذا المثال المبسط على قدرة النفس،  لو كنت مثلا في السعودية أو الكويت أو لبنان أو أي بلد ثم ذكرت لديك باريس مثلا فورا سيتكون لديك صورة متكاملة عن شارع الشانزإليزيه وبرج إيفيل ومعالم باريس في جزء بسيط من الثانية، ولا يقيدك في بلدك الذي تتواجد فيه إلا هذا الجسد، فلو كانت نفسا بلا جسد لوجدت نفسك فورا وحقيقة في باريس والدليل الانتقالات العجيبة التي تحدث لك أثناء النوم في أحلامك، فأنت تكون في غابة أو قرية نائية تفاجأ دون سابق إنذار أنك في مدينة أوربية أو عربية، وانتقلت بشكل غريب فتصحو من النوم وأنت تتساءل عن سبب تداخل الأماكن والأزمنة بهذه الطريقة العجيبة وعندما تسأل عن تلك الأحلام المتداخلة يكون الجواب المعتاد دائما) أضغاث أحلام).
دعونا نعود الآن لمحور الحديث بعد أن دللنا على معنى المسألة الميتافيزيقية، وهو العباقرة وسر التفوق المذهل لديهم عن باقي البشر، وهل هناك سمات مشتركة واستراتيجيات معينة بين هؤلاء العباقرة ساهمت في تفوقهم وألمعيتهم؟ هل نمط التفكير هو ما يكسبهم هذه الألمعية والألق والذكاء الفائق؟
دعونا نأخذ آينشتاين كمثال، فقبل وفاته عام ١٩٥٥ م أوصى آينشتاين بحرق جثته والاحتفاظ بدماغه من أجل تشريحه وإجراء الدراسات عليه لمعرفة سر عبقريته الرياضية والفيزيائية، وقد أثبت التشريح والدراسات زيادة الخلايا المناعية في مناطق معينة وكلما زادت هذه الخلايا المناعية في مناطق محددة في المخ زادت قدرة الإنسان على التفكير وسرعة ردة الفعل والإنتاج الفكري والاستنتاج والتخيل والتفوق، ووجدوا أيضا أن وزن مخ آينشتاين أقل من الوزن المتوسط للإنسان والذي يبلغ متوسطه 1 و 4 من عشرة جرام ، وهذا دليل أن وزن الدماغ ليس ضرورة للعبقرية والتفوق وقد اكتشفوا أن مخه أعرض بنسبة ١٥ ٪ وهذا يعطي مساحة أكبر لتشابك النهايات العصبية في المخ التي تؤدي إلى مزيد من العبقرية والإنتاج الفكري الفائق، وقد كتب هوارد جاردنر وهو عالم أنثروبولجيا معروف عالميا عن الخصائص التي تميز ذوي العقول الفائقة وسر إنجازاتهم، حيث درس جوانب التميز عند موتسارت وغاندي وبيتهوفن وسيغموند فرويد واعتمد في دراسته على أربع جوانب وشخصيات، وقد اختار القواعد البيولوجية الأربعة للعقول الرائدة للعقول الفريدة، فجعل فرويد نموذج لتحديد الأسس والقواعد وفيرجينيا وولف لنموذج حلم العبقرية، وغاندي كمؤثر وموتسارت كمتألق واكتشف أن العامل الوراثي كان له تأثير كبير في سر تفوق هؤلاء العباقرة والمتميزين ولكن التأثير الأكبر هو للبيئة المحيطة التي ساهمت في إخراج هذه العبقرية في ساعة ما تحت ظرف ما مما ساهم في بروز هذه العقليات الفذة وقد اكتشف هوارد جاردنر من خلال نظريته (الذكاءات المتعددة ) أن المتفوقين والعبارة لا يعرفون فقط فيما يفكرون بل إنهم يعرفون كيف يفكرون وحتى نقرب الصورة للقراء ، سُئل آينشتاين مرة عن الفرق بينه وبين الإنسان العادي فكان رده أن "الإنسان العادي إذا طلبت منه أن يبحث عن إبرة في كومة قش، فانه بمجرد أن يعثر على الإبرة، فسوف يتوقف عن البحث فوراً، أما أنا فسوف أستمر في التنقيب في كومة القش بحثاً عن احتمال وجود إبرة أخرى "، وقد أوضح هوارد جاردنر من خلال نظريته سر عبقرية شكسبير اللغوية وتفوقه الأدبي الذي ساهم في تخليد كتاباته حول العالم، حيث إنه يمتلك حصيلة لغوية هائلة وضخمة استغلها جيدا واستطاع كتابة ٢٥ ألف مفردة وكلمة مختلفة ووظفها بشكل رائع وفريد، وأوضح أن المثقف العادي لا تتجاوز حصيلته اللغوية ٥٠٠٠ آلاف كلمة في المتوسط، وهذا فرق شاسع وكبير ناهيك عن قدرة شكسبير على ابتكار أساليب أدبية جديدة لدرجة أنه أُتهم بأنه يخرج على الآداب والأعراف الثقافية والكتابية والمألوف في زمانه وقدراته في توظيف مخزونه اللغوي بشكل يخيل للقارئ وكأنه يتكلم عنه شخصيا.
حقيقة من الصعوبة بمكان أن نحصر سر تفوق العباقرة في سبب محدد في ظل هذه الدراسات المتعددة والتي أشارت إلى عدة عوامل وأسباب متداخلة ومعقدة لأن تركيب الإنسان وجسده وعقله دقيق ومعقد وعظيم ، وإن كانت نمطية التفكير في رأيي هي ما يميز العباقرة مع وجود مميزات عقلية وبيولوجية تميزهم عن غيرهم ناهيك عن غزارة الإنتاج والفكر لديهم ولكن سيبقى الإنسان لغزا محيرا وستستمر الدراسات والاكتشافات إلى الأبد. قال تعالى: ( وفي أنفسهم أفلا يتفكرون) ، وقال: ( وفي أنفسهم أفلا يبصرون)، فتفكر في هذه النعم أيها الإنسان والتي تتجلى فيها عظمة الخالق ونحمد الله على ما حبانا به من الأنعام الظاهرة و الباطنة حمدا كثيرا وحقيقة أن أعظم دراسة قام بها الإنسان حول العقل والجسد البشري كانت قبل ١٤٠٠ سنة تقريبا وتمثلت في بيت واحد يختصر كل هذا العناء للإمام علي عليه السلام عندما قال:
وتحسب أنك جرم صغير :: وفيك انطوى العالم الأكبر
فتأملوا؛
وصلى الله على خير البرية سيدنا محمد المصطفى وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين وبارك وسلم

حمدان آل مخلص

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سيدنا آدم عليه السلام ؛ هل تزوج الأولاد بالبنات؟

الإمام الحاكم بأمر الله والحقيقة المغيبة

رد الشبهات بالبراهين والبينات